"الزوج موجود والابن مولود والاخ مفقود" ، مثل من امثال اللغة العربية ، ومن المهم ان نعلم ان الامثال الشعبية والحكم ، في اللغة العربية ، لم تأت من فراغ وليست مستوردة ، اي مترجمة ، عن لغات اخرى ، وانما جاءت نتيجة حوادث وقعت فعلا ، او محتمل وقوعها ، وعلى اي حال فان الامثال الشعبية ، هي وجه من اوجه الثقافة ، لكل شعب من الشعوب. فهي ليست حكرا على الوطن العربي او اللغة العربية ، فان سائر الشعوب والامم منذ فجر التاريخ ، لكل منها لها ثقافتها الخاصة التي تميزها ، عن غيرها من شعوب الكرة الارضية ، وبالطبع كل شعب له منابع خاصة لثقافته ، التي هي عنوان له ولرقيه.
ونعتقد اننا لا نكون قد اخطأنا ، اذا قلنا ان ثقافة اي شعب من الشعوب ، هي في الحقيقة مفتاح حضارته ، فهي المدخل الي الحضارة ، ولا اريد الغوص عميقا ، في هذا الموضوع ، فليس محله هذا المقال ، خاصة وان للعلماء والفلاسفة آراء مختلفة ، واحيانا متباينة بل متصارعة على مر التاريخ ، حول هذا الموضوع الشيق والشائك ، والذي سوف نتناوله في مقال آخر باذن الله اذا بقى في العمر بقية.
نرجع الى المثل العربي محل هذا المقال ، وهو الزوج موجود والابن مولود والاخ مفقود ، فهو احد الامثال الهامة في الثقافة العربية ، والتي تميز عاداتنا وتقاليدنا بالارتباط والتكاتف بعيدا عن الانحلال ، والتفكك الاسري ، الذي نراه واضحا في اوروبا وامريكا ، ولا يحتاج الي برهان او دليل ، فان معظمنا زارهم ورأيناهم ويكفي ان الفتاة الاوروبية او الامريكية تستطيع ان تدعوا صديقها ، او حبيبها ، او عشيقها ، اختر اللفظ الذي يعجبك الي منزل والدها ، بدون حرج ، وبدون اعتراض من الوالد ، ويعتبرون هذا حرية وتقدم ، لعن الله مثل هذه الحرية.
بالنسبة للمثل الذي ذكرناه ، عنوانا لهذا المقال ، فهو مثل يضرب للدلالة على منزلة الاخ في الاسرة ، والحث على صلة الرحم ، بين الاخوة والاخوات. واصل هذا المثل كما قلنا ، جاء من قصة واقعية ، وهي تتلخص في ان الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهو احد القادة العرب المشهورين بالقسوة ، والذكاء. قبض الحجاج على ثلاثة رجال في تهمة ، واودعهم السجن ، ثم امر بهم ، في اليوم التالي ، وعندما مثلوا بين يديه ، احرى محاكمة قصيرة بنفسه ، وتأكد من صحة التهمة ، فامر بضرب اعناقهم بالسيف ، وكان العرف المتبع في ذلك الزمان ، ان يحضر اعدام المجرمين جمع غفير ، من الناس ، لاخذ العبرة وعدم ارتكاب الجرائم ، وحين قدم الثلاثة امام السيلف ، لمح الحجاج ، امرأة ذات حسن وجمال ، تبكي بكاء حارا ، فهي كانت تبكي بحرقة شديدة ، فقال الحجاج ، احضروها ، وامر السياف بالتوقف عن اعدام الرجال الثلاثة ، حتى يرى امر هذه المرأة ، فلما حضرت المرأة بين يدي الحجاج ، سألها عن الذي يبكيها بهذه الحرقة ، التي لفتت نظره ، فاجابت المرأة ، هؤلاء الثلاثة الذين امرت بضرب اعناقهم ، هم زوجي ، والثاني شقيقي ، والثالث هو ابني وفلذة كبدي ، فكيف لا ابكيهم بحرقة ، وهم كل ما يسندني في هذه الحياة ، ففكر الحجاج هنيهة ثم قرر ان يعفو عن واحد منهم ، اكراما لهذه المرأة ، وحتى يعيلها واحد منهم ، وقال لها اختاري واحدا منهم ، حتى اعفو عنه ، وكان اعتقاده ان المرأة سوف تختار ولدها ، فلذة كبدها وخيم الصمت على المكان ، وتعلقت الابصار بالمرأة ، في انتظار من سوف تختار ، فصمتت المرأة هنيهة ، ثم قالت: يا امير اختار اخي ، وفوجىء الحجاج من جوابها. فقال لها ، اخبريني عن سر اختيارك اخيك ، فاجابته باحترام ، ولكن بصوت لا تنقصه الشجاعة العربية ، ان الزوج فهو موجود ، اي يمكن ان تتزوج رجلا غيره ، واما الولد فهو مولود ، اي انها بعد الزواج ، تستطيع انجاب ولد اخر ، واما الاخ ، فهو مفقود ، اي لتعذر وجود الاب والام ، لوفاتهما ، فمن اين يكون لها اخا اذا اعدم ، فاعجب الحجاج بحكمتها وفطنتها ، فقرر العفو عنهم جميعا ، اكراما لها ، وذهب قولها مثلا بين الامثال العربية ، والحقيقة ان ثقافة المرأة العربية نابعة من الثقافة العربية ، وهي مستمدة في اكثريتها ، من الشريعة الاسلامية ، التي هي اهم رافد لنا.
فقد حث القرآن الكريم ، على صلة الرحم والاخوة ، ومنزلة الاخ في الاسرة فقال تعالى "واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم ، فاصبحتم بنعمته اخوانا". صدق الله العظيم. اي ان المولى انعم على العرب بالاسلام فلصبحوا اخوة بعد ان كانوا اعداءا يتقاتلون. فالاخوة منزلة عظيمة ، وفي دعاء سيدنا موسى عليه السلام ، اذ يقول ، كما ورد في القرآن الكريم "ربًّ اشرح لي صدري ، ويسر لي امري ، واحلل عقدة من لساني يفقه قولي ، رب اجعل لي وزيرا من اهلي ، هارون اخي ، اشدد به ازري ، واشركه في امري". فان الاخ سند لاخيه ، وقوة له ، يشد به ازره ، ويزداد به قوة ومناعة ، فان الاخ جوهرة لا تقدر بثمن ، وهكذا الامثال في لغة العرب ، فهي من الطرافة ، ولكن فيها من الحكمة ، مما جعلها تجري على لسان العرب عشرات بل مئات السنين.
يا ليتنا نرجع الى لغتنا ، فهي كنز وهبه الله لنا.
Comments